الاستاذ الدكتور
أ.د. بــاســم الاعســـم
(( كوليرا… الجمال في مواجهة القبح))
يسعى الكاتب والمخرج (سعد هدابي) في جميع عروضه المسرحية الى تحقيق قدر من التوازن بين رؤيته الدرامية عند تأليفه نص ما ,وبين رؤيته الإخراجية ,بحيث يقدم العرض بنحو متكامل, من دون ان تشوبه شائبة ,ومن حرصه الشديد ,انه ينتقي العنوانات والأحداث والمفردات والصور بدقة واختلاف واضحين ,وهذا ما يضفي عليها طابع التفرد مع طغيان الرمز والمجازات والتأويلات التي تضفي على العرض شعرية محببة , مع الإشارة الى مدلولات النص والعرض عبر جمل او مقاطع شعرية واضحة الدلالة تعمق صلة المتلقي مع العرض, فتشتعل القاعة بالتصفيق لان هدابي يعزف على محفزات الوجدان المدعمة بمهارات الاخراج ,وجمالية الاداء التمثيلي وبلاغة الحوار.نحن ألان بصدد عرض مسرحية (كوليرا) من تأليف واخراج الكاتب الدرامي القدير(سعد هدابي )الذي يتخذ من المفارقة الفلسفية المنتجة للصدمة مفتاحا لحلول (سوسيو نفسية)واذ وظفت بطلة العرض الممثلة (فاطمة جودت) مهنة النحت فصيرت الطين بشرا ,كتورية للإشارة الى فجائعية الواقع وقبح الحرب التي ألجئتها الى ان تخلق من الطين شريكا لها ولانها لاتريد لرحمها ان يكون بئرا نفطيا يدعم وقود الحرب العبثية ,ويالها من فكرة ولغة تعمدت بالمجازات لتدين أمراض العصر المستعصية كالتكفير والاضطهاد والاقصاء الى جانب التمييز العنصري كما يشير دليل العرض تلك الامراض التي انتجتها الطروحات والفتاوى التي سودت وجه التاريخ وبيضت وجه الطغاة من فرط قبحها أوحشيتها .ثمة زحمة افكار انثالت على لسان ممثلين اثنين ابدعا في قيادة العرض صوب تلك الجدالات الفكرية والفلسفية المتمحورة حول ازمات الانسان المعاصر عبر حوارات مقتضية ازدانت بالشعرية والوضوح والجمال لفضح القبح باشكالة كافة ,وبوتائر ادائية متنامية ,توسلت بصدق المشاعر والتقمص الوجداني على ايقاعات المؤثر الموسيقي المصاحب للحوارات والافعال الدرامية المصاحبة للايقاعات السمعبصرية دونما اسراف يذكر .
ان اللغة المسرحية التي تنتجها مخيلة المبدع سعد هدابي تساوي في قوتها وطاقتها الايحائية وجزالتها روعة الاشتغال الاخراجي المنتج لتلك المشاهد فمن عوامل استقطاب المتلقي وجمالية الاتصال في هذا العرض تحديدا ذلك الحوار المشبع بالمداليل المتصلة بحياة الناس والمنتجة لعذاباتهم كالحروب والفتاوى التكفيرية المجرمة والصحف الصفراء والسجون والطغاة الجاحدين فلنقرأ مما تيسر من حوار الممثل (صلاح الربيعي) اذ يقول (الاف الرسائل امطرتها السماء وانتم ترفعون مظلات جحودكم .. لا اله في قواميسكم سوى الشهوات والغزوات والحروب والمضاربات ) أو قول الممثلة الحسناء شكلاً وداءاً (فاطمة جودت) اذ تقول :(اني قررت ان لا اسمح لرحمي ان يتحول الى بئر نفط ينتج الوقود للحروب والازمات) ومثل ذلك الانثيال اللغوي الجليل كثير. من اخص علامات العرض, الطين الذي يشكل محور الفكرة الفلسفية المتصلة بالخلق فالممثلة تهرع الى الطين في مشغلها كيما تخلق شريك لها من طين يسبح باسم الماء ويسجد للورد ويلامس الغيوم على حد قول المؤلف المخرج فيغدوا الممثل المخلوق من الطين كتلة منتصبة في فضاء العرض كما لو كان احدى منحوتات (جواد سليم) في نصب الحرية وسرعان ما تنبعث الروح في جسده فيحوم في فضاءات العرض وينطق بلسان فصيح صابا جام غضبه على تجار الحروب والقتلة (ما ان شممت رائحة الدم في صحفكم حتى جفلت استحياءً انتم يامعشر الكذب). ان عرض (كوليرا) يجسد خلاصة الصراع بين الذات والاخر ,الممثل والممثلة وكلاهما مع في صراع محموم مع الامعات الاجلاف الممسكين بمصائر الناس والمسلطين على مقدراتهم ورقابهم .
ان المبدع المتنوع (سعد هدابي)يتوسل بالجمال والتمسرح للدفاع عن كرامة الانسان ,لذلك يمثل هذا العرض (كوليرا)الطريق الى الحرية فنجده بجهد نفسه لاستثمار اقصى مديات مخيلته وتوجيهها بما يصب في صالح العرض عبر الممثل وايصاله الى منطقة الخلق الابتكاري لتوثيق صلته بمدلول النص ومتلقيه وان استجابة المتلقين للعرض قد كانت متوهجة وتلقائية بفعل قصدية الاداء المنظم للممثلين وأكاديمية المقاربة الإخراجية محكمة الصنع ,فتولد ذلك التعاطف الفني والوجداني مع العرض الذي أنتجت حيثياته بكفاءة المخرج المبتكر سعد هدابي الذي من مزاياه انه يسام من المشاهد المسرحية الرتيبة فتجد الحركة وتغير المشاهد وتبدل الديكور وانفتاح العلامات واجهاد الممثل لاستنطاف حواسه الإدراكية وأدواته وهذا يشكل اسلوباً اخراجيا طالما عرف به سعد هدابي .
في هذا العرض (كوليرا) تتشابك الإضاءة مع الموسيقى والإيقاعات السمعية مع التوظيف الامثل للاغاني الشفيفة ذات الوقع العاطفي المرهف كأغاني فيروز وهذا ما اضفى على العرض سمة التنوع الجمالي الذي جسده ذلك الاشتغال الفني المائز للمثلين (فاطمة جودت)و (صلاح الربيعي) ثنائي العرض بإحساسهما المشتعل وأدائهما المنضبط وانتقالاتهما المتوافقة مع سينوغرافيا العرض والنابعة من فيض المشاعر الصادقة ,فلا تكاد تفصل بينهما فكلاهما واحد في عرض متقد الجمال.





