اشتغالات الجسد في المسرح المعاصر
د. بــــــاسم الأعســـــم
كلية الفنون الجميلـــة
حينما اقترح ( تاديوز كاوزان ) جدوله القاضي باندحار الملفوظ اللساني ( النص ) إزاء مكونات خطاب العرض المسرحي ومكملاته ، هيمنت الأنساق السمعية والبصرية والحركية ، ومنها : جسد الممثل ، بوصفه كتلة متحركة ، وعلامة مهيمنة من ابرز علامات خطاب العرض ، أما الكلمات فذات تأثير محدود ، إذ أن السمع والرؤية بالعيون .
وعلى حد قول ( يفرينوف ) : ( تلعب الكلمات دوراً مساعداً على خشبة المسرح ، لأننا نسمع بعيوننا ، أكثر مما نسمع بآذاننا ) .
ويأخذ جسد الممثل حصة الأسد من حيث ، التأثير في ذائقة المتلقي وبمؤازرة الأنساق الأخرى المؤتلفة ضمن فضاء خطاب العرض ، وأن الدعوة إلى المسرحة تعني – بالضرورة – منح جسد الممثل أدواراً فاعلة في التأثير ، بما يختزنه من رموز وإشارات وتلميحات وأفعال حركية متنوعة ، عبر أدواته التعبيرية ( الفطرية والمكتسبة ) .
إنّ الرؤية المعاصرة للخطاب المسرحي ، قد أفرغت جسد الممثل من محتواه المحاكاتي وزجّت به وسط المنظومة البصرية ، أو ضمن الإنشاء الصوري للمشهد المسرحي ، باعتبار أن الجسد يقسم على قسمين هما :
أولاً . الجسد المحاكاتي .
ثانياً . الجسد التعبيري ( الإيمائي ) المشبع بالرموز والإشارات .
ولقد أخذ جسد الممثل مفاهيم متعددة ومتنوعة لدى رجالات المسرح المعاصر وكالآتي :
آرتو الجسد حسي
ستانسلافسكي الجسد شعور نفسي
جروتوفسكي الجسد لعب
برخت الجسد موقف ، قضية ، فكرة
كريج الجسد رقص رمزي
وحينما يكون جسد الممثل ضمن سينوغرافيا العرض المسرحي ، لايعني ذلك ، إفراغه من محتواه ، أو عدّه جزءًا تشكيلياً ضمن منظومة صورية حسب ، بل أن جسد الممثل يمثل العلامة الأكبر ضمن علامات العرض المتعددة وكما يقر ذلك ( رولان بارت) .
وحينما نقر بذلك ، فهذا يعني – بالضرورة – التسيِّد أو هيمنة الجسد على سائر العلامات بما يحويه من طاقات مخزونة بحاجة إلى أن تُستَثَار لتفجر بما يصعد الطاقة التأثيرية المنعكسة على عين ونفس وذائقة المتلقي ، بالشكل الذي يضفي على ذات وجسد الممثل الشمول والحيوية والتنوع .
إذًا ، لم يكن جسد الممثل مجرد كتلة صمّاء ، هامدة ، وإنما شعلة متوهجة تضيء فضاء العرض بالإشعاع الجمالي والفكري من فرط حركيتها الساحرة ، والجمال المنبعث منها .
إن جسد الممثل ينطلق من الذات إلى الآخر ، أي لم يكن الجسد مغلقاً على نفسه أو ذاته ، بل يتسع فيشمل الصوت الآخر ، والظاهرة الأخرى ، أو الصورة المغايرة ، كما الحال في المسرح الملحمي ومسرح العبث واللامعقول ، على الضد من وضعية الجسد في المسرح الكلاسيكي ، فالجسد يعبر عن موقف أخلاقي ، له بعد سلوكي تطهيري ، كما في كلاسيكيات المسرح الإغريقي ، وأن رائعة الشاعر المسرحي سوفوكليس ( أوديب ملكًا ) خير مثال على ذلك .
وبهذا ، يكون جسد الممثل ، هو البطل الذي يحدد العلاقة الوجدانية الواعية مع المتلقي ، لاسيما في مسرح ( جروتوفسكي ) الذي يعد من ابرز المشتغلين على جسد الممثل والمؤسسين لـ ( المعمل المسرحي ) الذي تفرد من بين التجارب المسرحية المعاصرة ، والذي اتخذ من جسد الممثل بؤرة في الاشتغال المسرحي التعبيري .
ثمة عروض مسرحية فقيرة بأنساقها الديكورية ، لكنها غنية بانشغالاتها على أجساد الممثلين ، عقب التأثيرات التي أحدثتها الاتجاهات المسرحية المعاصرة التي مثلها : ( جروتوفسكي ، برخت ، شاينا ، بورشرت ، مايرهولد ، كريج ، أبيا ) … وآخرون .
بمعنى أدق ، أن العرض المسرحي الحديث أصبح يعرى من كل شيء ، إلا من جسد الممثل ، منبع الحركات والتكوينات ، والإشارات ، فهو منتج العرض وصانع الجمال فيه .
ثمة العديد من العروض المسرحية التي قدمت على خشبات مسارح العاصمة بغداد والمحافظات ، كانت أجساد الممثلين فيها صاحبة الثقل الرئيس كما في عروض المخرج العراقي المغترب ( طلعت السماوي ) والمخرج العراقي المغترب أيضاً ( قاسم البياتي ) ، وهي عروض راقصة تعول على اجساد الممثلين في ابتكار التكوينات والكتل الفنية المتحركة المنتجة للدراما الراقصة .
وفي تلك العروض ، تُستفز طاقات الممثلين إلى أقصاها ، بقصد تحقيق البعد الجمالي الناتج من بناء الأجساد المتحول بحسب الخطة الإخراجية وضرورات الفعل الدرامي والذائقة الجمالية .
من العروض العراقية التي وظّفت أجساد الممثلين عرض ( شكراً لساعي البريد ) الذي وازن فيه المخرج د. سامي عبد الحميد بين لغة الحوار ولغة الجسد ، بوساطة أدوات جسدية ذات بعد إيحائي ، وكذلك عرض ( هللويا ) الذي ينتمي إلى مسرح القسوة ، إذ أحال المخرج ( أسامة السلطان ) عرضه إلى احتفال مأساوي والشخصيات فيه تماهت مع بعضها وحتى جذع الشجرة المتيبس كان بمثابة جسد منخور ، إنه عرض متحرك .
أما عرض ( نار من السماء ) سيناريو وإخراج علي طالب ، فقد كان مثالاً رائعاً لتوظيف الأجساد التي كانت أبرز العلامات السيمائية في العرض التعبيري حتى استحال العرض إلى نص أدائي مترع بالحركات والإيماءات الجسدية .
وكذلك العرض الموسوم ( نقطة الفراغ ) تأليف ضياء سالم وإخراج قاسم السومري ، وفيه راح الممثلون يسبحون في الفضاء مخترقين المكان وأطره التقليدية من خلال تلك الأجساد التي شغلت حيزاً فيزيائياً في الفراغ فاكتسبت وجودها الفيزيقي والروحي معاً .
وفي عرض ( الطريق ) تأليف وإخراج منعم سعيد يكون هذا العرض الصامت من أبلغ العروض التي اشتغلت على جسد الممثل بمصاحبة الموسيقى واللون ، وأن كل عروض ( البانتومايم ) يكون رأسمالها جسد الممثل . وفي عرض مسرحية ( الحر الرياحي ) إخراج كريم رشيد يكون جسد الممثل العلامة الكبرى فكانت أجساد الممثلين ، بمثابة المعصرات التي أمطرت العرض بممكنات الوعي الجمالي ، فكان عرضاً تجريبياً بامتياز .


























